الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
فالحمد نقيض الذم، تقول: حمدت الرجل أحمده حمدا فهو حميد ومحمود، والتحميد أبلغ من الحمد. والحمد أعم من الشكر، والمحمد: الذي كثرت خصال المحمودة. قال الشاعر: وبذلك سمي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.وقال الشاعر: والمحمدة: خلاف المذمة. وأحمد الرجل: صار أمره إلى الحمد. وأحمدته: وجدته محمودا، تقول: أتيت موضع كذا فأحمدته، أي صادفته محمودا موافقا، وذلك إذا رضيت سكناه أو مرعاه. ورجل حمده مثل همزة يكثر حمد الأشياء ويقول فيها أكثر مما فيها. وحمده النار بالتحريك: صوت التهابها.الخامسة: ذهب أبو جعفر الطبري وأبو العباس المبرد إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد سواء، وليس بمرضى. وحكاه أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب الحقائق له عن جعفر الصادق وابن عطاء. قال ابن عطاء: معناه الشكر لله، إذ كان منه الامتنان على تعليمنا إياه حتى حمدناه. واستدل الطبري على أنهما بمعنى بصحة قولك: الحمد لله شكرا. قال ابن عطية: وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه، لأن قولك شكرا، إنما خصصت به الحمد، لأنه على نعمة من النعم.وقال بعض العلماء: إن الشكر أعم من الحمد، لأنه باللسان وبالجوارح والقلب، والحمد إنما يكون باللسان خاصة.وقيل: الحمد أعم، لأن فيه معنى الشكر ومعنى المدح، وهو أعم من الشكر، لأن الحمد يوضع موضع الشكر ولا يوضع الشكر موضع الحمد. وروي عن ابن عباس أنه قال: الحمد لله كلمه كل شاكر، وإن آدم عليه السلام قال حين عطس: الحمد لله.وقال الله لنوح عليه السلام: {فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} وقال إبراهيم عليه السلام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ}.وقال في قصة داود وسليمان: {وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ}.وقال لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدا}.وقال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}. {وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}. فهي كلمة كل شاكر.قلت: الصحيح أن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان، والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان. وعلى هذا الحد قال علماؤنا: الحمد أعم من الشكر، لأن الحمد يقع على الثناء وعلى التحميد وعلى الشكر، والجزاء مخصوص إنما يكون مكافأة لمن أولاك معروفا، فصار الحمد أعم في الآية لأنه يزيد على الشكر. ويذكر الحمد بمعنى الرضا، يقال: بلوته فحمدته، أي رضيته. ومنه قول تعالى: {مَقاماً مَحْمُوداً}.وقال عليه السلام: «أحمد إليكم غسل الإحليل» أي أرضاه لكم. ويذكر عن جعفر الصادق في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ}: من حمده بصفاته كما وصف نفسه فقد حمد، لأن الحمد جاء وميم ودال، فالحاء من الوحدانية، والميم من الملك، والدال من الديمومية، فمن عرفه بالوحدانية والديمومية والملك فقد عرفه، وهذا هو حقيقة الحمد لله.وقال شقيق بن إبراهيم في تفسير: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} قال: هو على ثلاثة أوجه: أولها إذا أعطاك الله شيئا تعرف من أعطاك. والثاني أن ترضى بما أعطاك. والثالث ما دامت قوته في جسدك ألا تعصيه، فهذه شرائط الحمد.السادسة: أثنى الله سبحانه بالحمد على نفسه، وافتتح كتابه بحمده، ولم يأذن في ذلك لغيره، بل نهاهم عن ذلك في كتابه وعلى لسان نبيه عليه السلام فقال: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى}.وقال عليه السلام: «احثوا في وجوه المداحين التراب» رواه المقداد. وسيأتي القول فيه في النساء إن شاء الله تعالى. فمعنى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} أي سبق الحمد مني لنفسي أن يحمدني أحد من العالمين، وحمدي نفسي لنفسي في الأزل لم يكن بعلة، وحمدي الخلق مشوب بالعلل. قال علماؤنا: فيستقبح من المخلوق الذي لم يعط الكمال أن يحمد نفسه ليستجلب لها المنافع ويدفع عنها المضار.وقيل: لما علم سبحانه عجز عباده عن حمده، حمد نفسه بنفسه لنفسه في الأزل، فاستفراغ طوق عباده هو محل العجز عن حمده. ألا ترى سيد المرسلين كيف أظهر العجز بقوله: {لا أحصى ثناء عليك}. وأنشدوا: وقيل: حمد نفسه في الأزل لما علم من كثره نعمه على عباده وعجزهم عن القيام بواجب حمده فحمد نفسه عنهم، لتكون النعمة أهنأ لديهم، حيث أسقط عنهم به ثقل المنة.السابعة: وأجمع القراء السبعة وجمهور الناس على رفع الدال من {الْحَمْدُ لِلَّهِ}. وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} بنصب الدال، وهذا على إضمار فعل. ويقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} بالرفع مبتدأ وخبر، وسبيل الخبر أن يفيد، فما الفائدة في هذا؟ فالجواب أن سيبويه قال: إذا قال الرجل الحمد لله بالرفع ففيه من المعنى مثل ما في قولك: حمدت الله حمدا، إلا أن الذي يرفع الحمد يخبر أن الحمد منه ومن جميع الخلق لله، والذي ينصب الحمد يخبر أن الحمد منه وحده لله.وقال غير سيبويه. إنما يتكلم بهذا تعرضا لعفو الله ومغفرته وتعظيما له وتمجيدا، فهو خلاف معنى الخبر وفيه معنى السؤال.وفي الحديث: «من شغل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين».وقيل: إن مدحه عز وجل لنفسه وثناءه عليها ليعلم ذلك عباده، فالمعنى على هذا: قولوا الحمد لله. قال الطبري: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ثناء أثنى به على نفسه، وفى ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه، فكأنه قال: قولوا الحمد لله، وعلى هذا يجئ قولوا إياك. وهذا من حذف العرب ما يدل ظاهر الكلام عليه، كما قال الشاعر: المعنى: المحفور له وزير، فحذف لدلالة ظاهر الكلام عليه، وهذا كثير. وروي عن ابن أبي عبلة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} بضم الدال واللام على إتباع الثاني الأول، وليتجانس اللفظ، وطلب التجانس في اللفظ كثير في كلامهم، نحو: أجوءك، وهو منحدر من الجبل، بضم الدال والجيم. قال: بضم النون لأجل ضم الهمزة.وفي قراءة لأهل مكة: {مردفين} بضم الراء اتباعا للميم، وعلى ذلك مقتلين بضم القاف. وقالوا: لامك، فكسروا الهمزة اتباعا للأم، وأنشد للنعمان بن بشير: الأصل: ويل لامها، فحذفت اللام الأولى واستثقل ضم الهمزة بعد الكسرة فنقلها للأم ثم أتبع اللام الميم. وروي عن الحسن بن أبي الحسن وزيد بن علي: {الحمد لله} بكسر الدال على اتباع الأول الثاني.الثامنة: قوله تعالى: {رَبِّ الْعالَمِينَ (2)} أي مالكهم، وكل من ملك شيئا فهو ربه، فالرب: المالك.وفي الصحاح: والرب اسم من أسماء الله تعالى، ولا يقال في غيره إلا بالإضافة، وقد قالوه في الجاهلية للملك، قال الحارث بن حلزة: والرب: السيد، ومنه قوله تعالى: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}.وفي الحديث: «أن تلد الامة ربتها» أي سيدتها، وقد بيناه في كتاب التذكرة. والرب: المصلح والمدبر والجابر والقائم. قال الهروي وغيره: يقال لمن قام بإصلاح شيء وإتمامه: قد ربه يربه فهو رب له وراب، ومنه سمي الربانيون لقيامهم بالكتب.وفي الحديث: «هل لك من نعمة تربها عليه» أي تقوم بها وتصلحها. والرب: المعبود، ومنه قول الشاعر: ويقال على التكثير: رباه ورببه وربته، حكاه النحاس.وفي الصحاح: ورب فلان ولده يربه ربا ورببه وترببه بمعنى أي رباه. والمربوب: المربى.التاسعة: قال بعض العلماء: إن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم، لكثرة دعوة الداعين به، وتأمل ذلك في القرآن، كما في آخر آل عمران وسورة إبراهيم وغيرهما، ولما يشعر به هذا الوصف من الصلاة بين الرب والمربوب، مع ما يتضمنه من العطف والرحمة والافتقار في كل حال. واختلف في اشتقاقه، فقيل: إنه مشتق من التربية، فالله سبحانه وتعالى مدبر لخلقه ومربيهم، ومنه قوله تعالى: {وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ}. فسمى بنت الزوجة ربيبة لتربية الزوج لها. فعلى أنه مدبر لخلقه ومربيهم يكون صفة فعل، وعلى أن الرب بمعنى المالك والسيد يكون صفة ذات.العاشرة: متى أدخلت الألف واللام على رب اختص الله تعالى به، لأنها للعهد، وإن حذفنا منه صار مشتركا بين الله وبين عباده، فيقال: الله رب العباد، وزيد رب الدار، فالله سبحانه رب الأرباب، يملك المالك والمملوك، وهو خالق ذلك ورزقه، وكل رب سواه غير خالق ولا رازق، وكل مملوك فمملك بعد أن لم يكن، ومنتزع ذلك من يده، وإنما يملك شيئا دون شي، وصفه الله تعالى مخالفة لهذه المعاني، فهذا الفرق بين صفة الخالق والمخلوقين.الحادية عشرة: قوله تعالى: {الْعالَمِينَ} اختلف أهل التأويل في: {الْعالَمِينَ} اختلافا كثيرا، فقال قتادة: العالمون جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله تعالى، ولا واحد له من لفظه مثل رهط وقوم.وقيل: أهل كل زمان عالم، قاله الحسين بن الفضل، لقول تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ} أي من الناس.وقال العجاج: وقال جرير بن الخطفى: وقال ابن عباس: العالمون الجن والانس، دليله قوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً} ولم يكن نذيرا للبهائم.وقال الفراء وأبو عبيدة: العالم عبارة عمن يعقل، وهم أربعة أمم: الانس والجن والملائكة والشياطين. ولا يقال للبهائم: عالم، لأن هذا الجمع إنما هو جمع من يعقل خاصة. قال الأعشى: وقال زيد بن أسلم: هم المرتزقون، ونحوه قول أبي عمرو بن العلاء: هم الروحانيون. وهو معنى قول ابن عباس أيضا: كل ذي روح دب على وجه الأرض.وقال وهب بن منبه: إن لله عز وجل ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا عالم منها.وقال أبو سعيد الخدري: إن لله أربعين ألف عالم، الدنيا من شرقها إلى غربها عالم واحد.وقال مقاتل: العالمون ثمانون ألف عالم، أربعون ألف عالم في البر، وأربعون ألف عالم في البحر.وروى الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: الجن عالم، والانس عالم، وسوى ذلك للأرض أربع زوايا في كل زاوية ألف وخمسمائة عالم، خلقهم لعبادته.قلت: والقول الأول أصح هذه الأقوال، لأنه شامل لكل مخلوق وموجود، دليله قوله تعالى: {قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ. قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا} ثم هو مأخوذ من العلم والعلامة، لأنه يدل على موجده. كذا قال الزجاج قال: العالم كل ما خلقه الله في الدنيا والآخرة.وقال الخليل: العلم والعلامة والمعلم: ما دل على الشيء، فالعالم دال على أن له خالقا ومدبرا، وهذا واضح. وقد ذكر أن رجلا قال بين يدي الجنيد: الحمد لله، فقال له: أتمها كما قال الله، قل: رب العالمين، فقال الرجل: ومن العالمين حتى تذكر مع الحق؟ قال: قل يا أخي؟ فإن المحدث إذا قرن مع القديم لا يبقى له أثر.الثانية عشرة: يجوز الرفع والنصب في: {رب} فالنصب على المدح، والرفع على القطع، أي هو رب العالمين.
|